كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والسؤال هنا هو: هل هذا التلازم بين الخير والشر أمر واقع في الحياة؟
أم أنه مجرد عملية من عمليات العقل، وطريقة من طرائقه في فهم الأشياء، وكشف الحقائق؟
وسؤال آخر.. هل هناك خير؟ وإذا كان.. فما هو؟ وهل الشر قائم إلى جانب الخير أبدا؟ وإن كان.. فما هو؟ وما الصلة بينه وبين الخير؟
الخير والشر.. وواقع الحياة:
ولعلّ أكثر الكلمات دورانا على ألسنة الناس، كلمتا الخير والشر..
فما عرض لإنسان أمر، أو وقع له شىء، إلّا نظر إليه من جانبى الخير والشر، وإلّا أخذه بأحد الوصفين: الخير والشر.. إن هاتين الكلمتين، هما ميزان الحياة الذي يقدّر به الإنسان كلّ شيء يأخذه أو يدعه.. إلخ. ير في كفة، والشرّ في الكفة الأخرى.. هكذا تجرى حياة الناس، وهكذا تجىء تصرفاتهم وبقع سلوكهم، على حسب ما يشير إليه مؤشر الميزان، من رجحان إحدى الكفتين على الأخرى.. فإذا تعادلتا، توقف الإنسان ووقع في حيرة بين ما يأخذ وما يدع! إننا جميعا نقول بالخير والشر.. نعرفهما، ونعمل ونتعامل في حدودهما، ونزن حظوظنا من كلّ شيء بهما..
ومع هذا، فإن من بعض الفلاسفة والمفكرين من ينكر وجودهما، ولا يعترف بأن في الحياة خيرا أو شرا..
فهل يقبل واقع الحياة هذا الرأى؟ وهل انطوت صفحات الخير والشر من هذا الوجود، إذعانا لهذا الرأى، ونزولا على حكمه؟
ولَكِن.. مهلا..
ما هو الخير؟ وما هو الشرّ؟
إننا نتحدث منذ أخذنا في هذا الحديث، عن الخير والشر، كأنهما حقيقتان واقعتان، متفق على ماهيتهما، متعارف على الحدود القائمة بينهما..
مع أن الواقع غير ذلك..
فمع اعتراف المعترفين بالخير والشرّ، فإن خلافا كبيرا قد وقع بينهم في تحديد الصورة، التي يكون بها الخير خيرا والشرّ شرّا..
ما هي الضوابط التي تضبط معنى الخير؟ والتي إن تحققت في أمر من الأمور عرف أنه خير؟ وإن تخلّف بعضها وتحقق بعضها عرفت نسبة الخير فيه؟
إنه بغير هذه الضوابط ستتفرق بالناس السّبل، حيث تعدد المفاهيم للخير والشرّ. على حسب تعدد الناس، وحسب ما يرون، وما يقدّرون. فلا يلتقون على طريق واحد فيما يأخذون أو يدعون، ولا فيما يحمدون أو يكرهون، ولا فيما يثيبون أو يعاقبون.
ما الخير إذن؟
يكاد يكون الخير أمرا بدهيا، لكثرة إلف الناس له، وإحساسهم به..
فهو لهذا لا يكاد يضبط أو يحصر داخل حدّ محدود.. إنه مشاع في الناس، واقع في إحساسهم.. كل يراه من الأفق الذي يعيش فيه.. فيبدو لبعض الناس في صورة المتاع الجسدى من طعام وشراب، ولباس، وغير هذا مما هو من حظ الجسد، على حين يراه آخرون في ألوان من الأدبيّات، التي تعلو بالروح، وتسمو بالوجدان.. وبين هذه الآفاق الصاعدة والآفاق النازلة، درجات لا تكاد تحصى، وتكاد تكون على تعداد الناس.. فردا فردا..
ولَكِن إذ قد اختلفت معابير الناس في الخير- وهذا أمر طبيعى- لاختلاف رغباتهم، وتنوع مطالبهم، فليس معنى هذا ألا يكون هناك خير، وإنما هذا الاختلاف في ذاته، دليل على وجوده! ولعل أول إحساس بالخير، جاء عن طريق إحساس مادىّ، يقع على الجسد من أمور تتصل بحاجات الإنسان الجسدية، التي تمسك عليه الحياة، وتدفع عنه أسباب الفناء فالشىء الذي كان يسدّ حاجة الإنسان البدائى، ويشبع جوعته- أيا كان هذا الشيء- هو خير وخير كثير..
من أجل هذا كانت تلك الموجودات من حيوان أو نبات أو جماد، معبودات للإنسان الأول، حيث ظهرت له، في صورة نافعة أو ضارة، وذلك ليرجو خيرها، ويدفع شرها..
ومن هنا كان تعدد الآلهة التي عبدها الإنسان في خطواته الأولى في الحياة.. فعبد كل شىء، إذ كان يرى مصيره مرتبطا به، في مجال النفع والضر على السواء..
ثم حين خطا الإنسان خطوات إلى الحياة، وتعرف على وجوه الأشياء، وأخضعها لسلطانه- ترك عبادتها شيئا فشيئا، ثم ما زال بها يدفعها عن مقام التأليه والتقديس حتى انتهى به الأمر إلى جمعها جميعا تحت دائرتين: دائرة تسع كل ما هو خير، وأخرى تجمع كلّ ما هو شر.. فالخير جميعه يصدر عن قوة عليا، كما أن الشرّ كله يصدر عن جهة عليا كذلك، تناظر قوة الخير، وتقابلها.. وهكذا انتهى الإنسان في مرحلة متأخرة من حياته إلى عبادة الخير، والشر، ولم يستسغ أن يجمع بين الخير والشر في دائرة واحدة، فيجعلهما صادرين عن قوة واحدة عليا.. لأنه فهم أن الخير لا يلتقى أبدا مع الشر، وأن الذي يصنع الخير، لا يصنع الشر.
فلسفة المثنوية:
وقد اطمأن الإنسان إلى هذا المعتقد، واجتمعت له فيه، نفسه المشتتة، وعاد إليه فكرة اللاهث، الذي كان يجرى وراء كل هذه الآلهة التي لا حصر لها.. ومنذ هذا الوقت استطاع الإنسان أن يتأمل، وأن يطيل التأمل في هذين الإلهين، اللذين احتويا جميع الآلهة، وانتزعا كل سلطان على هذا الوجود..
ولقد نشأ عن هذا التأمل الطويل العميق في هذين الإلهين، فلسفة لها أسلوبها الذهني والمنطقي، ولها أحكامها القائمة على البرهان والاستدلال..
ولعلّ أقدم نظر لبس ثوب الفلسفة في العقيدة المثنوية هو نظر حكماء الفرس، الذين انتهى بهم الرأى إلى القول بإلهين يحكمان العالم، ويتحكمان في مصيره، وهما: إله الخير، وإله الشر.. وقد رمزوا لإله الخير بالنور يزدان ولإله الشرّ بالظلام أهرمن.
وقد تفرقت بفلاسفة الفرس وحكمائها السبل حول النظر في هذين الإلهين، وسلطان كل منهما في هذا العالم، وفى الصدام والصراع الذي لابد أن يقع بينهما، إذ كانت طبيعة كل منهما على خلاف حادّ مع طبيعة الآخر.
فذهب فريق منهم إلى أن يزدان - وهو النور- أزلىُّ قديم، وأما أهرمن - وهو الظلام- فحادث مخلوق..
وفى زمن متأخر جاء زرادشت بمذهب يخالف هذا المذهب، فقال: إن اللّه واحد قديم، لا شريك له ولا ضد ولا ندّ.. وهو الذي خلق النور والظلام، ولا يجوز أن ينسب إليه وجود الظلمة.. ولَكِن الخير والشرّ، والصلاح والفساد، والطهارة والخبث، إنما حدث بامتزاج النور والظلمة، ولو لم يمتزجا لما كان للعالم وجود!!
وهما- أي النور والظلام- يتقاومان، ويتغالبان، إلى أن يغلب النور الظلام، والخير الشرّ، ثم يتخلص الخير إلى عالمه..
والبارئ تعالى هو الذي مزجهما وخلطهما لحكمة رآها في التركيب.. ويرى زرادشت أن النور هو الأصل، وأن وجوده وجود حقيقى، وأمّا الظلمة فتبع له.. كالظل بالنسبة إلى الشخص.. ولما كان الباري يرى أنه موجود، وليس بموجود، فقد أبدع النور، وحصل الظلام تبعا.. لأن من ضرورة الوجود التضادّ.
ونلاحظ هنا أن هذا الرأى يقارب كثيرا ما تقول به التوراة في سفر التكوين.. فما تحدّث به التوراة يكاد يكون نقلا حرفيًّا له! كما يلاحظ أيضا أن قول زرادشت بأن الخير والشرّ، والصلاح والفساد، والطهارة والخبث، إنما حدثت من امتزاج النور والظلمة- يلاحظ أن هذا القول يتفق مع أحدث النظريات الفلسفية والأخلاقية التي تقول، بأن الخير والشر لا يوجدان خالصين.. فالخير ممتزج بالشر، والشرّ معه الخير..
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسرًّا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسرًّا}..
الخير والشر في معابير الفلسفة الحديثة:
ولابد لنا من نظرة إلى عصرنا هذا، وإلى نظرته إلى الخير والشر، عند العلماء، والفلاسفة، ورجال الدّين والأخلاق..
فلقد عنيت الفلسفة الحديثة بالسلوك الإنسانى، وجعلت الإنسان موضوعا بارزا من موضوعات الدراسة والنظر في منهجها.
كان ما وراء الطبيعة في الفلسفة القديمة، هو كل ما يشغل الفلاسفة، ويسيطر على تفكيرهم.. فجاءت نظرياتهم تخطيطا لصور من المثاليات القائمة على التصورات والفروض.. وطبيعىّ ألا يكون للإنسان حظ بارز في هذه الفلسفة.
وكانت دعوة أرسطو إلى النظر في عالم الواقع والحسّ، في كلمته المشهورة: اعرف نفسك - كانت هذه الدعوة جديرة بأن تؤتى ثمارها، لو أنها تناولت الإنسان من حيث هو كائن حىّ من كائنات الطبيعة.. ولَكِن هذه الدعوة نقلت الفلسفة من النظر في السماء، إلى النظر فيما وراء المحسوس من الإنسان.. من روح، ونفس، وعقل، ولم توجّه النظر إلى المادة، ومظاهر الطبيعة التي يعيش الإنسان فيها، بل ويعيش منها وعليها..
أما في هذا العصر، ومنذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادى، فقد فتن الناس بالواقع التجربي، الذي يقوم على الاختيار الحسىّ، وأصبحت المعامل التجريبية لعلوم الطبيعة وظواهرها، ميدان الصراع العقلي بين العلماء..
فتلون التفكير الفلسفي بالصبغة العملية، وتغير منهج الفلسفة.. فبعد أن كانت مراحل التفكير الفلسفي تبدأ من السماء، ثم تنتهى أو لا تكاد تنتهى إلى الأرض- أصبحت الفلسفة تبدأ من الأرض، ثم تنتهى أو لا تنتهى إلى السماء..!
وطبيعى أن يظفر الإنسان بالنّصيب الأوفر من عناية الفلاسفة المعاصرين..
إذ كانت الطبيعة موضوع فلسفتهم، وكان الإنسان هو أعلى، وأعظم ظاهرة فيها..
ولما كان الخير والشرّ جانبين بارزين في تكفير الإنسان، وفى سلوكه، فقد عنيت بهما الفلسفة، فيما عنيت به من شأن الإنسان، وحاولت الفلسفة جهدها أن تحدد القيمة لكل من الخير والشرّ، وأن تضع الموازين والضوابط لهما..
وتصور.. كيف يكون الحال، لو عرف الناس ميزانا دقيقا يزنون به تصرفاتهم- قبل أن تقع- وتتبيّنوا جانب الخير، وجانب الشر منها؟ إن إنسانا لن يمدّ يده، أو يسعى برجله، إلى شر أبدا.. وكيف وقد استبان له وجه الخير والشرّ، على الصورة التي يقعان بها؟.
وقد تقول: إن كثيرا من الأمور يعرف الناس وجه الخير والشرّ فيها، ومع هذا، فإنهم يواقعون الشرّ وعيونهم مفتوحة له! فهناك شرّ صراح لا خفاء فيه، ومع هذا فإنه واقع في سلوك الناس.. قد تقول هذا! ونحن نوافقك على هذا الاعتراض، ولَكِن على شرط أن تتفق معنا على أن مثل هذا الشرّ غير مصحوب بالحتمية التي تجعل وقوعه أمرا لازما، لا مفرّ منه، عند الذين يتلبّسون به على الأقل.. فإن هناك صورا من الاحتمالية تثور دائما في وجه ما يبدو أنه شرّ محض! وهذه الاحتمالية هي الضباب الذي يخفى كثيرا من وجوه الشرّ، فيما هو شر، وهى السراب الخادع الذي يضلل الإنسان، ويغربه بفعل ما هو شر، وإن كان يراه رأى العين!! ولا شك أن رغباتنا، وعواطفنا، تلعبان دورا هاما، في مجال العمليات الاحتمالية، فتقوبها أو تضعفها، على حسب ما عندنا من رغبات وعواطف نحو الشر الذي نقف إزاءه، وما عندنا من إرادة، وعزم، وثورة، على ضبط هذه الرغبات، وكبح جماح تلك العواطف!! ومع هذا، فإننا نقول: إنه من الخير أن يظلّ الخير والشرّ في هذه السّحب التي تحجب الكثير من معالمها، فيكون للاحتمالية ومكانها في الخير أن يكون شرا، وفى الشرّ أن يكون خيرا- وبذلك تقوم دواعى العمل، ويكون للحياة دورانها، وللناس سعيهم في كل وجه، فيعملون فيما يحسبون أنه خير، وإن جاء بالشر!! {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ولو استبان للناس وجه الخير صريحا، لكان ركب الحياة كلّه متجها إلى هذا الوجه وحده، ولكان الناس على طريق واحد!! ولَكِن أي ركب هذا الذي يأخذ طريقا واحدا؟ إنه ركب جامد صامت لا حركة فيه.. إنه أشبه بالتيار الموجب في القوة الكهربائية.. لا يعمل، ولا يتحرك، ولا تصدر عنه فاعلية في إحداث حرارة أو ضوء، إلا إذا اتصل بالتيار السالب، وتفاعل معه!.
إن معالجتنا للأمور، لا تظهر نتائجها إلا بعد أن نفرغ منها، ونخرج من أيدينا، ولو استدارت لنا عواقب الأمور، فرأيناها قبل أن نعالجها، لكان شأننا في الحياة غير هذه الشأن، فما أخطأ مخطئ، ولا خسر خاسر، ولا أصيب مصاب.. وهكذا، مما يقع للناس، مما يسوؤهم.. ولكان شاعرا كاين الرومىّ على غير ما كان عليه، من الخوف، والتردد، والعجز، عن لقاء الحياة.. ولما قال هذا القول، مصورا به نفسه:
أقدّم رجلا رغبة في رغيبة ** وأمسك أخرى رهبة للمعاطب

ألا من يرينى غايتى قبل مذهبى ** ومن أين والغايات بعد المذاهب

ونعود فنقول إن الفلسفة الحديثة، وإن بدأت بالنظر إلى الإنسان، ممثلا في المجتمع الإنسانى، فإنها انتهت بالإنسانية ممثلة في الإنسان.. بمعنى أن الإنسان من حيث هو كائن له ذاتيته، وله مدركاته، ومشاعره- هذا الإنسان هو الذي أصبح مركز الدائرة التي تدور حولها الفلسفة الحديثة.. وإذا كان لها نظر إلى المجتمع الإنسانى، وإلى الروابط التي تربط الفرد بالجماعة، فهو نظر جانبى يحىء تبعا للنظرة المتجهة اتجاها مباشرا إلى الإنسان وحده.
ومن هنا كان الحكم على الخير والشر- في تقدير الفلسفة الحديثة- قائما على أساس فردى بحت، بمعنى أن الفرد- والفرد وحده- هو الذي له أن يحكم على هذا الأمر بأنه خير أو شر، ثم إنه ليس هذا بالذي يمنع من أن يجىء غيره فينقض عليه حكمه، فيرى ما رآه غيره خيرا، شرا، وما رآه شرا، هو عنده خير..
وعلى هذا، فهناك- عند الفلسفة الحديثة- خير وشر، ولَكِن لا ذاتية للخير أو الشرّ، بل هما أمران اعتباريّان، فالخير ما رآه الإنسان خيرا. والشر ما رآه شرا.. وإنه لا خير ولا شرّ في حقيقة الأمر!! وفى هذا يقول الفيلسوف الأمريكى وليم جيمس: إن الإنسان هو مصدر الخير والشرّ، والفضيلة والرذيلة.. إن الخير خير بالنسبة له، والشرّ شر بالقياس إليه.. إن الإنسان هو الخالق الوحيد للقيم في ذلك العالم، وليس للأشياء من قيمة خلقية إلا باعتباره هو!! ويمكن أن يكون هذا الرأى تلخيصا للفلسفة الحديثة، وإن دخلت عليه بعض الألوان والأصباغ، فإن اللون الغالب فيه هو هذا اللون الذي يجعل للإنسان وحده تقييم الأشياء، وتصنيفها، ووضع كل شيء منها في موضعه من الخير والشر، والحسن والقبح..!
الخير والشرّ في نظر الإسلام:
لا تحفل الشريعة الإسلامية بالنظر الفلسفي في حقائق الأشياء، ولا تعنى بالجدل اللفظي حول ماهيتها، لأن غاية هذه الشريعة ليست تربية الملكات العقلية، ولا تخريج الفلاسفة والحكماء، وإنما رسالتها تقوم أساسا على تقويم السلوك، وتهذيب النفوس، وإقامة مجتمعات إنسانية على مبادئ الخير والعدل والإحسان.